التنصت في ظل النظم الديكتاتورية تكون حياة الناس صفحات مكشوفة لأجهزة القمع والاستبداد.
وتنفق الدولة بلا حساب على استخدام المخبرين أو المرشدين السريين، وعلى اقتناء أحدث الأجهزة التي يمكن من خلالها متابعة أنفاس الناس وتحركاتهم وكلماتهم بعيدًا عن أي إشراف قضائي.
ويترتب على ذلك محاسبة الناس وبخاصة المعارضون للنظام على ما لم يرتكبوه، بل تلفيق التهم لهم ومعاقبتهم على التهم الملفقة عبر محاكمات شكلية وهمية، وربما من غير محاكمة أصلًا..
وكثيرًا ما ترتب على تقرير مخبر سري أو تسجيل مكالمة هاتفية فصل شخص من عمله، أو منع شخص من الوظيفة أو السفر... إلى آخر تلك الممارسات السيئة المعلومة.
وما رآه الناس من آثار جهاز أمن الدولة المنحل ليس إلا شيئًا قليلًا مما قام به هذا الجهاز السيئ السمعة.
الذي كان بعض رجاله يتفاخر بأنه يعرف ما يدور في الغرف المغلقة والخاصة للمواطنين.
وأنه يمتلك ملفات مثقلة بخصوصيات كبار السياسيين، وخصوصًا المعارضين للنظام الديكتاتوري، فكيف ينظر النظام الإسلامي إلى قضية التنصت؟
تصرف مرفوض شرعًا
ترفض الشريعة الإسلامية أن تقوم الدولة أو أجهزتها بالتنصت على الناس، أو أن تسعى للوقوف على أسرارهم.
وترى أن هذا من الخصوصيات التي يجب حمايتها، وترفض رفضًا قاطعًا أن تُنصَب لهم آلاتُ التصوير الخفية لتصورهم حين يرتكبون جرائمهم المتوقعة.
ولا تقبل مطلقًا بأن تتسلط الشُّرَطةَ أو غيرها لتتجسس على الناس المخالفين للنظام حتى تقبض عليهم متلبسين بمعارضة النظام، أو التآمر عليه!
بل ترفض ذلك مع مَن تتوقع أجهزة الأمن أنهم ينوون ارتكاب جرائم جنائية؛ لأن مهمة أجهزة الدولة أن تمنع حصول الجريمة.
وأن تلفت نظر من يفكر في ذلك حتى لا يقع في ارتكاب الجريمة، لا أن تنصب الفخاخ للإيقاع به حين يرتكب جريمته.
وكان عمر-رضي الله عنه- يقول: "روِّعُوا اللص ولا تُرَاعوه"؛ أي خوِّفوه حتى لا يرتكب جريمة السرقة، ولا تراقبوه حتى يسرق ثم يقبض عليه متلبسًا.
صيانة حرمات المواطنين
بل إن توجيهاتِ الإسلام هنا حاسمةٌ كلَّ الحسم في صيانة حرمات الناس الخاصة، وتحريم التجسس عليهم أو تتبع عوراتهم.
سواء من قِبَل الأفراد، أومن قِبَل السلطات الحاكمة، فيقول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد وابن حبان:
"مَنْ اسْتَمَعَ إلى حَدِيثِ قَوْمٍ يَكْرَهُونَهُ صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"؛ أي الرصاص المغلي المُذاب من شدة الحرارة.
ويرفض صلى الله عليه وسلم أن يبعث عيونه بين رعيته ليقفوا على أسرارهم، ويتتبعوا أخطاءهم.
فيقول فيما أخرجه أبو داود: "يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الإِيمَانُ قَلْبَهُ لا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعْ الله عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعْ الله عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ".
العيون والجواسيس إنما يبعثها القائد أو الحاكم وأجهزة الدولة لتتجسس على أعداء الأمة.
وتنقل للدولة أخبار الخصوم الذين يتربصون بالأمة، أما المواطنون الذين وُكِلَ إليه وإلى أجهزة الدولة أمرُهُم، وأُمر أن يجتهد في الخير لهم.
فلا يمكن أن تقبل الشريعة أنه يتم التنصت عليهم، أو تتبع مجالسهم، أو الدخول عليهم بغير استئذان، أو إهدار ثروات الأمة في شراء أجهزة التنصت على المواطنين بدلًا من توفير أحدث الأجهزة العلمية التي تحتاجها النهضات.
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم حين يبلغه أن هناك من ينافق ويجتمع مع مجلس من المنافقين لفعل شيء محرم، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يرفض أن يبعث إلى هذا المجلس ليتجسس عليه؛ ففي الطبراني عَنِ ابْنِ عُمَرَ-رضي الله عنهما- قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ حَرْمَلَةُ بن زَيْدٍ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم.
فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، الإِيمَانُ هَا هُنَا، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلى لِسَانِهِ، وَالنِّفَاقُ هَا هُنَا، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلى صَدْرِهِ، وَلا يَذْكُرُ الله إِلا قَلِيلًا. فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَرَدَّدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ.
وَسَكَتَ حَرْمَلَةُ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِطَرَفِ لِسَانِ حَرْمَلَةَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ اجْعَلْ لَهُ لِسَانًا صَادِقًا، وَقَلْبًا شَاكِرًا، وَارْزُقْهُ حُبِّي وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّنِي، وَصَيِّرْ أَمْرَهُ إلى الْخَيْرِ".
فَقَالَ حَرْمَلَةُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ لِي إِخْوَانًا مُنَافِقِينَ كُنْتُ فِيهِمْ رَأْسًا، أَفَلا أَدُلُّكَ عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
"لا، مَنْ جَاءَنَا كَمَا جِئْتَنَا اسْتَغْفَرْنَا لَهُ كَمَا اسْتَغْفَرْنَا لَكَ، وَمَنْ أَصَرَّ عَلَى ذَنْبِهِ فَالله أَوْلَى بِهِ، وَلا تَخْرِقْ عَلَى أَحَدٍ سَتْرًا". فهل يمكن أن ترى مثل هذا السلوك الراقي في غير النظام الإسلامي؟!
الصحابة يرفضون التجسس على الناس
وهكذا فهم الصحابة رضي الله عنهم؛ فعند عبد الرزاق والحاكم عن عبد الرحمن بن عوف-رضي الله عنه-: أنه حرس ليلة مع عمر-رضي الله عنه- بالمدينة.
فبينما هم يمشون شبَّ لهم سراجٌ في بيتٍ، فانطلقوا يؤمُّونه (أي يقصدونه) حتى إذا دنَوْا منه، إذا باب مُجَافٌ (أي مغلق) على قومٍ، لهم فيه أصواتٌ مرتفعةٌ ولَغَطٌ.
فقال عمر رضي الله عنه-وأخذ بيد عبد الرحمن-: أتدري بيتُ مَنْ هذا؟ قال: لا. قال: هو ربيعةُ بنُ أميةَ بنِ خَلَف، وهم الآن شُرْبٌ (أي يشربون الخمر)، فما ترى؟ قال عبد الرحمن: أرى أنَّا قد أتيْنا ما نَهى اللهُ عنه، نهانا الله فقال: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12]، فقد تجسسنا! فانصرف عمر عنهم وتركهم.
ويرفض الفاروق العادل-رضي الله عنه- أخذ الناس بالظن أو معاملتهم بحسب سوء الظن فيهم، فيقول فيما أخرجه البخاري:
"إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ فِي عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّ الْوَحْيَ قَدْ انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمْ الآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمِنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ.
وَلَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ، الله يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ، وَإِنْ قَالَ: إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ".
وفي رواية عند أحمد قَالَ: "مَنْ أَظْهَرَ مِنْكُمْ خَيْرًا ظَنَنَّا بِهِ خَيْرًا وَأَحْبَبْنَاهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ مِنْكُمْ لَنَا شَرًّا ظَنَنَّا بِهِ شَرًّا وَأَبْغَضْنَاهُ عَلَيْهِ، سَرَائِرُكُمْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ...".
وأما ابْنُ مَسْعُودٍ-رضي الله عنه- فيرفض أن يفتش على الناس؛ فعند أبي داود والحاكم أن ابن مسعود أُتِيَ (وهو قاضٍ) فَقِيلَ:
هَذَا فُلانٌ تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْرًا (يقصد المتحدث أن ذلك الرجل كانت لحيته تقطر قطرات سائلة يغلب على الظن أنها خمر). فَقَالَ عَبْدُ الله رضي الله عنه: "إِنَّا قَدْ نُهِينَا عَنْ التَّجَسُّسِ، وَلَكِنْ إِنْ يَظْهَرْ لَنَا شَيْءٌ نَأْخُذْ بِهِ".
وأما عقبة بن عامر-رضي الله عنه- والي مصر فينهى عن التبليغ عمن يشربون الخمر في منازلهم، ويدعو إلى نصحهم وتخويفهم مع الستر عليهم؛ فعند أحمد وأبي داود عَنْ دُخَيْنٍ كَاتِبِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قُلْتُ لِعُقْبَةَ: إِنَّ لَنَا جِيرَانًا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَأَنَا دَاعٍ لَهُمْ الشُّرَطَ فَيَأْخُذُوهُمْ.
فَقَالَ: لا تَفْعَلْ، وَلَكِنْ عِظْهُمْ وَتَهَدَّدْهُمْ. قَالَ: فَفَعَلَ، فَلَمْ يَنْتَهُوا.
قَالَ: فَجَاءَهُ دُخَيْنٌ فَقَالَ: إِنِّي نَهَيْتُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا، وَأَنَا دَاعٍ لَهُمْ الشُّرَطَ. فَقَالَ عُقْبَةُ: وَيْحَكَ! لا تَفْعَلْ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ مُؤْمِنٍ فَكَأَنَّمَا اسْتَحْيَا مَوْءُودَةً مِنْ قَبْرِهَا".
وهكذا ترى أن النظام الإسلامي لا يلجأ مطلقًا إلى تلك الصورة القبيحة القميئة التي لا يكون همُّ الحاكم وأجهزته الأمنية فيها إلا أن يتعرف على خصوصيات الناس؛ ليُخوِّفهم ويُرهبهم، ليسمعوا ويطيعوا بلا وعي، وليخضعوا لسلطانه ويمتنعوا عن نصحه أو انتقاده، فهذا خلاف الولاية الصحيحة التي يسعى إلى تحقيقها.
الكاتب: د. عبد الرحمن البر
المصدر: موقع قصة الإسلام